فصل: الرَّابِعُ: تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَشَّحَةٍ وتجريدية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الِاسْتِعَارَةُ:

هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْتِعَارَةُ مَجَازٌ وَقَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ. وَمَنَعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ فِيهِ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ وَهَكَذَا كَمَا مَنَعَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَهُوَ لَا يُنْكِرُ وُقُوعَ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ فِيهِ إِنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إِذْنِ الشَّرْعِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ لِلْإِطْلَاقِ شَرَطُوا عَدَمَ الْإِبْهَامِ وَقَدْ يَمْنَعُونَ الْإِبْهَامَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسم لأعلى مراتب الفصاحة.
وقال الطرطوسي: إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا وَإِنِ امْتَنَعُوا امْتَنَعْنَا وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ. انْتَهَى.
وَالْمَشْهُورُ تجويز الإطلاق.

.مباحث الاستعارة:

ثُمَّ فِيهَا مَبَاحِثُ:

.الْأَوَّلُ: وَهِيَ (اسْتِفْعَالٌ) مِنَ الْعَارِيَّةِ:

ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّخْيِيلِ لقصد المبالغة.
فِي التَّخْيِيلِ وَالتَّشْبِيهِ مَعَ الْإِيجَازِ نَحْوِ لَقِيتُ أَسَدًا وَتَعْنِي بِهِ الشُّجَاعَ.
وَحَقِيقَتُهَا أَنْ تُسْتَعَارَ الكلمة من شيء معروف بها إل شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ أَوْ بِحُصُولِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ لِلْمَجْمُوعِ.
فَمِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيِّ، قوله تعالى: {وإنه في أم الكتاب}، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ (الْأُمِّ) لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كَمَا تَنْشَأُ الْفُرُوعُ مِنَ الْأُصُولِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعِيَانِ وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ.
وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا، قَوْلُهُ تعالى: {واخفض لهما جناح الذل} لِأَنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلْوَلَدِ أَوَّلًا جَانِبَ ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحَ وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَةِ: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ) أَيْ اخْفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا.
وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هذاجعل مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مَرْكَبًا احْتِيجَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ الْجَنَاحُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَنَاحِ لِأَنَّ مَنْ مَيَّلَ جَانِبَهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خفض جانبه المراد خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَنْبَ بِالْإِبِطِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِخَفْضِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ:
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي ** صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي

فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَارُورَةً وَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ فَأَرْسَلَ أَبُو تَمَّامٍ: أَنِ ابْعَثْ لِي رِيشَةً مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ أَبْعَثْ إِلَيْكَ مِنْ مَاءِ الْمُلَامِ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّشْبِيهَيْنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ كَجَعْلِ الْمَاءِ لِلْمُلَامِ فَإِنَّ الْجَنَاحَ لِلذُّلِّ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا وَهَى وَتَعِبَ بَسَطَ جَنَاحَهُ وَأَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَلِلْإِنْسَانِ أَيْضًا جَنَاحٌ فَإِنَّ يَدَيْهِ جَنَاحَاهُ وَإِذَا خَضَعَ وَاسْتَكَانَ يطأطئ مِنْ رَأْسِهِ وَخَفَضَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَحَسُنَ عِنْدَ ذَلِكَ جَعْلُ الْجَنَاحِ لِلذُّلِّ وَصَارَ شَبَهًا مُنَاسِبًا وَأَمَّا مَاءُ الْمُلَامِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مُنَاسَبَةِ التَّشْبِيهِ فَلِذَلِكَ اسْتُهْجِنَ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إِنَّ الِاسْتِعَارَةَ التَّخْيِيلِيَّةَ فِيهِ تَابِعَةٌ لِلِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ فَإِنَّ تَشْبِيهَ الْمُلَامِ بِظَرْفِ الشَّرَابِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ الشَّارِبُ لِمَرَارَتِهِ ثُمَّ اسْتَعَارَ الْمُلَامَ لَهُ كَمَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُشَبَّهُ بِالْمَاءِ فَالِاسْتِعَارَةُ فِي اسْمِ الْمَاءِ.

.الثَّانِي: فِي أَنَّهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمَجَازِ:

لِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: لَيْسَ بِمَجَازٍ لِعَدَمِ النَّقْلِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هِيَ تَشْبِيهٌ مَحْذُوفُ الْأَدَاةِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَلِهَذَا حَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِادِّعَاءِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ فِي الشَّيْءِ مُبَالَغَةً فِي التَّشْبِيهِ. كَقَوْلِهِمْ: انْشَقَّتْ عَصَاهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا وَذَلِكَ لِلْعَصَا لَا لِلْقَوْمِ وَيَقُولُونَ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ.
وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ إِذَا ذُكِرَتْ مَعَهُ الْأَدَاةُ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ وَإِنْ حُذِفَتْ فَهَذَا يَلْتَبِسُ بِالِاسْتِعَارَةِ فَإِذَا ذَكَرْتَ الْمُشَبَّهَ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ الْأَسَدُ فَهَذَا تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بكم عمي}، إِنْ لَمْ يُذْكَرِ الْمُشَبَّهُ بِهِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ كَقَوْلِهِ:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ** لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

فَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ نَقَلْتَ لَهَا وَصْفَ الشُّجَاعِ إِلَى عِبَارَةٍ صَالِحَةٍ لِلْأَسَدِ لَوْلَا قَرِينَةُ السِّلَاحِ لَشَكَكْتَ هَلْ أَرَادَ الرَّجُلَ الشُّجَاعَ أَوِ الْأَسَدَ الضَّارِيَ؟.

.الثَّالِثُ: لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أُصُولٍ:

مُسْتَعَارٍ، وَمُسْتَعَارٍ مِنْهُ، وَهُوَ اللَّفْظُ، وَمُسْتَعَارٍ لَهُ وَهُوَ الْمَعْنَى، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرأس شيبا} المستعار الاشتعال، المستعار مِنْهُ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ مُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّهَارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ.
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ وَصْفُ مَا هُوَ أَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَظْهَرُ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: وَاشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ وَإِنَّمَا قَلَبَ لِلْمُبَالَغَةِ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْهُ عُمُومُ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ وَلَوْ جَاءَ الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِهِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ الْعُمُومَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ كَثُرَ الشَّيْبُ فِي الرَّأْسِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الْمَعْنَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَعْنَى يُعَارُ أَوَّلًا ثُمَّ بِوَاسِطَتِهِ يُعَارُ اللَّفْظُ وَلَا تَحْسُنُ الِاسْتِعَارَةُ إِلَّا حَيْثُ كَانَ الشَّبَهُ مُقَرَّرًا بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالشَّبَهِ فَلَوْ قُلْتَ: رَأَيْتُ نَخْلَةً أَوْ خَامَةً وَأَنْتَ تُرِيدُ مُؤْمِنًا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ» أَوِ «الْخَامَةِ» لَكُنْتَ كَالْمُلْغِزِ.
وَمِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {والصبح إذا تنفس} وَحَقِيقَتُهُ (بَدَأَ انْتِشَارُهُ) وَ: (تَنَفَّسَ) أَبْلَغُ فَإِنَّ ظُهُورَ الْأَنْوَارِ فِي الْمَشْرِقِ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ قَلِيلًا قَلِيلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْرَاجِ النَّفَسِ مُشَارَكَةٌ شديدة.
وقوله: {الليل نسلخ منه النهار}، لِأَنَّ انْسِلَاخَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْهُ وَيَزُولَ عَنْهُ حَالًا فَحَالًا كَذَلِكَ انْفِصَالُ اللَّيْلِ عَنِ النَّهَارِ وَالِانْسِلَاخُ أَبْلَغُ مِنَ الِانْفِصَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ.
وَقَوْلُهُ: {أَحَاطَ بهم سرادقها}.
{سنسمه على الخرطوم}.
وقوله: {كأنهم حمر مستنفرة}، وَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ الْمَذْمُومِ: إِنَّمَا هُوَ حِمَارٌ.
وَقَوْلُهُ: {والتفت الساق بالساق}.
{أإنا لمردودون في الحافرة}، أَيْ فِي الْخَلْقِ الْجَدِيدِ.
{بَلْ رَانَ عَلَى قلوبهم}.
{خلقنا الإنسان في كبد}.
{لنسفعا بالناصية}.
{وامرأته حمالة الحطب}.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا منظرين}.
{ويتخطف الناس من حولهم}.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}.
{ألا إنما طائرهم عند الله}، وَالْمُرَادُ حِفْظُهُمْ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أقم الصلاة}، أَيْ أَتِمَّهَا كَمَا أُمِرْتَ.
{إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس}، أَيْ عَصَمَكَ مِنْهُمْ، رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي وجاء عن الحسن.
{وإنه في أم الكتاب}.
{وعنده مفاتح الغيب}.
{ولما سكت عن موسى الغضب}.
{فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هو زاهق}، فالدمغ والقذف مستعار.
{فضربنا على آذانهم}، يُرِيدُ لَا إِحْسَاسَ بِهَا مِنْ غَيْرِ صَمَمٍ.
وقوله: {فاصدع بما تؤمر}، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ بَلِّغْ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا.

.الرَّابِعُ: تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَشَّحَةٍ وتجريدية:

تَنْقَسِمُ إِلَى مُرَشَّحَةٍ-وَهِيَ أَحْسَنُهَا- وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ وَتُرَاعِيَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا ربحت تجارتهم}، فَإِنَّ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ الَّذِي هُوَ الشِّرَاءُ هُوَ الْمُرَاعَى هُنَا وَهُوَ الَّذِي رَشَّحَ لَفْظَتِيِ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ لِلِاسْتِعَارَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُلَاءَمَةِ.
وَإِلَى تَجْرِيدِيَّةٍ، وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى جَانِبِ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، ثُمَّ تَأْتِيَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَيُلَائِمُهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف}، فَالْمُسْتَعَارُ اللِّبَاسُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْجُوعُ فَمُجَرَّدُ الِاسْتِعَارَةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الْأَدَاةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الْجُوعُ لَا الْمُسْتَعَارُ وَهُوَ اللِّبَاسُ وَلَوْ أَرَادَ تَرْشِيحَهَا لَقَالَ: وَكَسَاهَا لِبَاسَ الْجُوعِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَاعَاةُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ لِأَنَّ أَلَمَهُمَا يُذَاقُ وَلَا يلبس.
وَقَدْ تَجِيءُ مُلَاحَظَةُ الْمُسْتَعَارِ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ، كقوله تعالى: {وامرأته حمالة الحطب} إِذَا حَمَلْنَا الْحَطَبَ عَلَى النَّمِيمَةِ فَاعْتَبَرَ اللَّفْظَ فَقَالَ: (حَمَّالَةَ) وَلَمْ يَقُلْ (رَاوِيَةَ) فَيُلَاحَظُ الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ بِالْكِنَايَةِ فَهِيَ أَلَّا يُصَرِّحَ بِذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ، بَلْ تُذْكَرُ بَعْضُ لَوَازِمِهِ تَنْبِيهًا بِهِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ وَعَالِمٌ يَغْتَرِفُ مِنْهُ النَّاسُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الشُّجَاعَ أَسَدٌ وَالْعَالِمَ بَحْرٌ.
وَمِنْهُ الْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ كُلُّهُ عِنْدَ السكاكي.
وَمِنْ أَقْسَامِهَا- وَهُوَ دَقِيقٌ- أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ الْمُسْتَعَارِ ثُمَّ يُومِي إِلَيْهِ بِذِكْرِ شَيْءٍ من توابعه وروادفه تنبيها عليه فيقول شُجَاعٌ يَفْتَرِسُ أَقْرَانَهُ فَنَبَّهْتَ بِالِافْتِرَاسِ عَلَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَعَرْتَ لَهُ الْأَسَدَ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، فَنَبَّهَ بِالنَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْحَبْلِ وَرَوَادِفِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدِ اسْتَعَارَ لِلْعَهْدِ الْحَبْلَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَابِ الْوَصْلَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاهِدِينَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ (عَمِلْنَا) لَكِنْ (قَدِمْنَا) أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ إِمْهَالِهِمُ السَّابِقِ عَامَلَهُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْغَائِبُ عَنْهُمْ إِذَا قَدِمَ فَرَآهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالْإِمْهَالِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا لَمَّا طغا الماء حملناكم في الجارية}، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (طَغَى) عَلَا وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ لِأَنَّ (طَغَى) عَلَا قَاهِرًا.
وَكَذَلِكَ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (عَاتِيَةٍ) شَدِيدَةٌ وَالْعُتُوُّ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ شِدَّةٌ فِيهَا تَمَرُّدٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}، الْآيَةَ وَحَقِيقَتُهُ: لَا تَمْنَعْ مَا تَمْلِكُ كُلَّ الْمَنْعِ وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَنْعَ النَّائِلِ بِمَنْزِلَةِ غَلِّ الْيَدَيْنِ إِلَى الْعُنُقِ وَحَالُ الْغُلُولِ أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، قِيلَ: أَخْرَجَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْكُنُوزِ.
وَقِيلَ: يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى وَأَنَّهَا أَخْرَجَتْ مَوْتَاهَا فَسَمَّى الْمَوْتَى ثِقَلًا تشبيها بالحمل الذين يَكُونُ فِي الْبَطْنِ لِأَنَّ الْحَمْلَ يُسَمَّى ثِقَلًا قال تعالى: {فلما أثقلت}.
وَمِنْهَا جَعْلُ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الِادِّعَاءِ وَالْإِحَاطَةِ بِهِ نَافِعَةٌ فِي آيَاتِ الصفات كقوله تعالى: {تجري بأعيننا}.
وَقَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه}.
وَيُسَمَّى التَّخْيِيلَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا تَجِدُ بَابًا فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَدَقُّ وَلَا أَعُونُ فِي تَعَاطِي الْمُشَبَّهَاتِ مِنْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَأَنَّهُ رؤوس الشياطين} قَالَ الْفَرَّاءُ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَ طَلْعَهَا رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ فِي الْقُبْحِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي بَعْضَ الْحَيَّاتِ شَيْطَانًا وَهُوَ ذُو الْقَرْنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ شَوْكٌ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ يسمى رؤس الشَّيَاطِينِ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ تَخْيِيلًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَشْبِيهًا مُخْتَصًّا.